كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ورابعها: أن طاعة الله وطاعة رسوله واجبة قطعا، وعندنا أن طاعة أهل الإجماع واجبة قطعا، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا، بل الأكثر أنها تكون محرمة لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم، وفي الأقل تكون واجبة بحسب الظن الضعيف، فكان حمل الآية على الإجماع أولى، لأنه أدخل الرسول وأولي الأمر في لفظ واحد وهو قوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر} فكان حمل أولي الأمر الذي هو مقرون بالرسول على المعصوم أولى من حمله على الفاجر الفاسق.
وخامسها: أن أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوى العلماء، والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء، فكان حمل لفظ أولي الأمر عليهم أولى، وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد لوجوه:
أحدها: ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق، ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطا، وظاهر قوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} يقتضي الإطلاق، وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال، وذلك لأنه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة، وهو قوله: {وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معا، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر.
الثاني: أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر، وأولو الأمر جمع، وعندهم لا يكون في الزمان إلا إمام واحد، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر.
وثالثها: أنه قال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الإمام، فثبت أن الحق تفسير الآية بما ذكرناه. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} يدل عندنا على أن القياس حجة، والذي يدل على ذلك أن قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَىْء} إما أن يكون المراد فإن اختلفتم في شيء حكمه منصوص عليه في الكتاب أو السنة أو الإجماع، أو المراد فإن اختلفتم في شيء حكمه غير منصوص عليه في شيء من هذه الثلاثة، والأول باطل لأن على ذلك التقدير وجب عليه طاعته فكان ذلك داخلا تحت قوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} وحينئذ يصير قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} إعادة لعين ما مضى، وإنه غير جائز.
وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني وهو أن المراد: فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة والاجماع، وإذا كان كذلك لم يكن المراد من قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة.
فوجب أن يكون المراد رد حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له، وذلك هو القياس، فثبت أن الآية دالة على الأمر بالقياس.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} أي فوضوا علمه إلى الله واسكتوا عنه ولا تتعرضوا له؟ وأيضًا فلم لا يجوز ان يكون المراد فردوا غير المنصوص إلى المنصوص في أنه لا يحكم فيه إلا بالنص؟ وأيضا لم يجوزلا أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية؟
قلنا: أما الأول فمدفوع، وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين، منها ما يكون حكمها منصوصا عليه، ومنها ما لا يكون كذلك، ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد، وأمر في القسم الثاني بالرد إلى الله وإلى الرسول، ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت، لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل ذلك، بل لابد من قطع الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات، وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله على السكوت عن تلك الواقعة، وبهذا الجواب يظهر فساد السؤال الثالث.
وأما السؤال الثاني:
فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل، فلا يكون رد الواقعة إليها ردا إلى الله بوجه من الوجوه، أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها كان هذا ردا للواقعة على أحكام الله تعالى، فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى. اهـ.
قال الفخر:
هذه الآية دالة على أن الكتاب والسنة مقدمان على القياس مطلقا، فلا يجوز ترك العمل بهما بسبب القياس، ولا يجوز تخصيصهما بسبب القياس ألبتة، سواء كان القياس جليا أو خفيا، سواء كان ذلك النص مخصوصا قبل ذلك أم لا، ويدل عليه أنا بينا أن قوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} أمر بطاعة الكتاب والسنة، وهذا الأمر مطلق، فثبت أن متابعة الكتاب والسنة سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصصهما أو لم يوجد واجبة، ومما يؤكد ذلك وجوه أخرى: أحدها: أن كلمة إن على قول كثير من الناس للاشتراط، وعلى هذا المذهب كان قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} صريح في أنه لا يجوز العدول إلى القياس إلا عند فقدان الأصول.
الثاني: أنه تعالى أخر ذكر القياس عن ذكر الأصول الثلاثة، وهذا مشعر بأن العمل به مؤخر عن الأصول الثلاثة.
الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا الترتيب في قصة معاذ حيث أخر الاجتهاد عن الكتاب، وعلق جوازه على عدم وجدان الكتاب والسنة بقوله: {فإن لم تجد} الرابع: أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم حيث قال: {وَإِذ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} [البقرة: 34] ثم إن إبليس لم يدفع هذا النص بالكلية، بل خصص نفسه عن ذلك العموم بقياس هو قوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] ثم أجمع العقلاء على أنه جعل القياس مقدما على النص وصار بذلك السبب ملعونا، وهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس تقديم للقياس على النص وانه غير جائز.
الخامس: أن القرآن مقطوع في متنه لأنه ثبت بالتواتر، والقياس ليس كذلك، بل هو مظنون من جميع الجهات، والمقطوع راجح على المظنون.
السادس: قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} [المائدة: 45] وإذا وجدنا عموم الكتاب حاصلا في الواقعة ثم إنا لا نحكم به بل حكمنا بالقياس لزم الدخول تحت هذا العموم.
السابع: قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] فإذا كان عموم القرآن حاضر، ثم قدمنا القياس المخصص لزم التقديم بين يدي الله ورسوله.
الثامن: قوله تعالى: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء الله} [الأنعام: 148] إلى قوله: {إِن تَتَّبِعُونَ إلى الظن} [الأنعام: 148] جعل اتباع الظن من صفات الكفار، ومن الموجبات القوية في مذمتهم، فهذا يقتضي أن لا يجوز العمل بالقياس ألبتة ترك هذا النص لما بينا أنه يدل على جواز العمل بالقياس، لكنه إنما دل على ذلك عند فقدان النصوص، فوجب عند وجدانها أن يبقى على الأصل.
التاسع: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فلإن وافقه فاقبلوه وإلا ذروه» ولا شك أن الحديث أقوى من القياس، فإذا كان الحديث الذي لا يوافقه الكتاب مردودًا فالقياس أولى به.
العاشر: أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والقياس يفرق عقل الإنسان الضعيف، وكل من له عقل سليم عُلِمَ أن الأول أقوى بالمتابعة وأحرى. اهـ.
قال الفخر:
هذه الآية دالة على أن ما سوى هذه الأصول الأربعة: أعني الكتاب والسنة والإجماع والقياس مردود باطل، وذلك لأنه تعالى جعل الوقائع قسمين:
أحدهما: ما تكون أحكامها منصوصة عليها وأمر فيها بالطاعة وهو قوله: {يا أيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ}.
والثاني: ما لا تكون أحكامها منصوصة عليها وأمر فيها بالاجتهاد وهو قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} فإذا كان لا مزيد على هذين القسمين وقد أمر الله تعالى في كل واحد منهما بتكليف خاص معين دل ذلك على أنه ليس للمكلف أن يتمسك بشيء سوى هذه الأصول الأربعة، وإذا ثبت هذا فنقول: القول بالاستحسان الذي يقول به أبو حنيفة رضي الله عنه، والقول بالاستصلاح الذي يقول به مالك رحمه الله إن كان المراد به أحد هذه الأمور الأربعة فهو تغيير عبارة ولا فائدة فيه، وإن كان مغايرًا لهذه الأربعة كان القول به باطلا قطعًا لدلالة هذه الآية على بطلانه كما ذكرنا. اهـ.
قال الفخر:
زعم كثير من الفقهاء أن قوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} يدل على أن ظاهر الأمر للوجوب، واعترض المتكلمون عليه فقالوا: قوله: {أَطِيعُواْ الله} فهذا لا يدل على الإيجاب إلا إذا ثبت أن الأمر للوجوب.
وهذا يقتضي افتقار الدليل إلى المدلول وهو باطل، وللفقهاء أن يجيبوا عنه من وجهين:
الأول: أن الأوامر الواردة في الوقائع المخصوصة دالة على الندبية فقوله: {أَطِيعُواْ} لو كان معناه أن الإتيان بالمأمورات مندوب فحينئذ لا يبقى لهذه الآية فائدة.
لأن مجرد الندبية كان معلوما من تلك الأوامر، فوجب حملها على إفادة الوجوب حتى يقال: ان الأوامر دلت على أن فعل تلك المأمورات أولى من تركها، وهذه الآية دلت على المنع من تركها فحينئذ يبقى لهذه الآية فائدة.
والثاني: أنه تعالى ختم الآية بقوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} وهو وعيد، فكما أن احتمال اختصاصه بقوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله} قائم، فكذلك احتمال عوده إلى الجملتين أعني قوله: {أَطِيعُواْ الله} وقوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله} قائم، ولا شك أن الاحتياط فيه، وإذا حكمنا بعود ذلك الوعيد إلى الكل صار قوله: {أَطِيعُواْ الله} موجبا للوجوب، فثبت أن هذه الآية دالة على أن ظاهر الأمر للوجوب، ولا شك أنه أصل معتبر في الشرع. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم إما القول وإما الفعل، أما القول فيجب إطاعته لقوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} وأما الفعل فيجب على الأمة الاقتداء به إلا ما خصه الدليل.
وذلك لأنا بينا أن قوله: {أَطِيعُواْ} يدل على أن أوامر الله للوجوب ثم إنه تعالى قال في آية أخرى في صفة محمد عليه الصلاة والسلام: {فاتبعوه} وهذا أمر، فوجب أن يكون للوجوب، فثبت أن متابعته واجبة، والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير فعله، فثبت ان قوله: {أَطِيعُواْ الله} يوجب الاقتداء بالرسول في كل أفعاله، وقوله: {وَأَطِيعُواْ الرسول} يوجب الاقتداء به في جميع أقواله، ولا شك أنهما أصلان معتبران في الشريعة. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن ظاهر الأمر وإن كان في أصل الوضع لا يفيد التكرار ولا الفور إلا أنه في عرف الشرع يدل عليه، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن قوله: {أَطِيعُواْ الله} يصح منه استثناء أي وقت كان، وحكم الاستثناء اخراج ما لولاه لدخل، فوجب أن يكون قوله: {أَطِيعُواْ الله} متناولا لكل الأوقات، وذلك يقتضي التكرار، والتكرار يقتضي الفور.
الثاني: أنه لو لم يفد ذلك لصارت الآية مجملة، لأن الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة غير مذكورة، أما لو حملناه على العموم كانت الآية مبينة، وحمل كلام الله على الوجه الذي يكون مبينا أولى من حمله على الوجه الذي به يصير مجملا مجهولا، أقصى ما في الباب أنه يدخله التخصيص، والتخصيص خير من الاجمال.